27 أيلول/سبتمبر 2017

كانت إحدى الفترات الأكثر إثارة من الناحية الفكرية والمليئة بالتحديات السياسية، والشعور بالرضا شخصياً في حياتي، هي تلك الفترة التي أمضيتها كمستشارة لأمين عام الأمم المتحدة السابق، بان كي مون، حيث عملت مع الدول الأعضاء والشعوب في جميع أنحاء العالم لتوضيح خطة عام 2030 من أجل التنمية المستدامة. إن هذه الخطة التاريخية، التي اعتمدها قادة العالم في احتفالية مؤثرة في عام 2015، تتمثل في 17 هدفاً من أهداف التنمية المستدامة، وتشير إلى الطريق نحو مستقبل مليء بالكرامة والازدهار والسلام للجميع. وفي هذه المرحلة التي لازالت مبكرة من جهودنا لتأمين إمكانات الخطة والوفاء بوعودها، يشرفني كثيراً أن يطلب مني الأمين العام الحالي، أنطونيو غوتيريس، أن أخدم كنائبة له، ومن ثم أن أخدم شعوب العالم مرة أخرى في هذا العمل الأساسي.

وأنا أعلم من اقتصاد وخبرات بلدي، نيجيريا، أنَّ حفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية واستخدامها على نحوٍ مستدام جزء لا يتجزأ من خطة عام 2030 وأهدافها الرامية إلى القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية السلمية والمستدامة لجميع الأمم. ومع أنَّ المحيطات الآن اقتربت من، أو وصلت بالفعل إلى الحدود القصوى لقدرتها على تلبية الاحتياجات البشرية ولقدرتها على أن تظل نظم إيكولوجية سليمة، فإن الأمم المتحدة وحدها هي التي تستطيع حشد نوع العمل التحويلي اللازم على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني، وذلك من أجل عكس هذا الاتجاه.

وفي كثير من البلدان النامية الساحلية والدول الجزرية الصغيرة النامية، فإنَّ كل من المحافظة على صحة النظم الإيكولوجية الساحلية والبحرية وكذلك استعادتها، مثل أشجار المنغروف والشعاب المرجانية، يعتبران أمران حيويان للحماية من الأخطار الطبيعية مثل العواصف الشديدة وارتفاع مستوى سطح البحر. كما أنها ضرورية لتعزيز الأمن الغذائي وحماية سبل العيش وحماية التنمية الاقتصادية الأوسع نطاقاً. توفر مصايد الأسماك البحرية فرص عمل لـ 300 مليون شخص وتساعد على تلبية الاحتياجات الغذائية لثلاثة مليارات من البشر. إن دور مصائد الأسماك عميق بصفة خاصة في العديد من أفقر المجتمعات في العالم، حيث تشكل الأسماك مصدراً هاماً للبروتين والمغذيات الدقيقة الأساسية والأحماض الدهنية-أوميغا 3. ويوفر قطاع صيد الأسماك شبكة أمان اجتماعي، ولا سيما للنساء، الذين يشكلون غالبية العاملين في الأنشطة الثانوية المتصلة بمصايد الأسماك البحرية والاستزراع المائي البحري، مثل تجهيز الأسماك وتسويقها.

وتشهد المحيطات أيضاً ضغوطاً كبيرة من جراء تغير المناخ. وعلى الصعيد العالمي، ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار 20 سنتيمتراً منذ بداية القرن العشرين، ويرجع ذلك أساساً إلى التمدد الحراري للمحيطات وذوبان الأنهار الجليدية والغطاء الجليدي. وتشهد بعض المناطق ارتفاعاً أكبر في مستوى سطح البحر. وتؤثر الاتجاهات العامة للاحترار، والنوبات الضخمة من تبييض المرجان، والتحمض وارتفاع مستوى سطح البحر على النظم الإيكولوجية في جميع المناطق، مما يهدد مصايد الأسماك وسلاسل الأغذية وقدرة المحيطات على العمل كمصارف للكربون تتسم بالكفاءة. وتتسبب درجات الحرارة الأكثر دفئاً في حدوث ظواهر مناخية أكثر تطرفاً، كما أنَّ ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار مترين بحلول نهاية القرن سيكون كارثياً بالنسبة للموائل الساحلية والاقتصادات الساحلية. ويتعرض مئات الملايين من البشر للخطر.

وهنا أيضاً، فإن الحالة في نيجيريا تقدم مثالاً حياً على التهديد. حيث يعتبر الخط الساحلي أمراً حيوياً بالنسبة لشعب ولاية لاغوس ودلتا النيجر، الذين يشكلون 19 في المائة من سكان نيجيريا ويواجهون درجة عالية من الضعف بسبب الفقر وارتفاع الكثافة السكانية والتحضر وتلوث المياه وسوء الصحة والمرافق الصحية واستخدام الأراضي.  أما لاغوس، على وجه الخصوص، فهي معرضة لخطر التآكل الساحلي والغمر. وفي حين أنَّ درجة معينة من التآكل تحدث بشكل طبيعي، فإن الأنشطة البشرية، مثل بناء الموانئ ومرافق إنتاج النفط، وبناء السدود على الأنهار، وتعدين الرمال، تؤدي إلى تفاقم الخطر. وتشهد دلتا النيجر، التي تساهم بنسبة 35 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلد و90 بالمئة من عائدات التصدير، خسارة واسعة النطاق للتنوع البيولوجي، وإزالة الغابات، والصيد الجائر للأسماك، وفقدان مناطق التفريخ بسبب تدمير أشجار المنغروف. ولا تزال التسريبات النفطية تدمر المحيطات والأنهار.

وتوضح هذه الأمثلة أنَّ حفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية واستخدامها على نحو مستدام يتجاوز بكثير الحاجة إلى التخفيف من الآثار المناخية والتكيّف معها. ويجب أن يشمل جميع الأنشطة المتصلة بالمحيطات، بما في ذلك مصائد الأسماك وتربية الأحياء المائية، ومصادر التلوث البرية، والسياحة، والنقل، والصناعات الجديدة القائمة على المحيطات مثل الطاقة المتجددة البحرية والتكنولوجيا الأحيائية البحرية. إنَّ جميع التحديات التي تواجه المحيطات هي من صنع البشرية؛ ويمكن أن يتم عكس كل شيء من خلال عملنا المنسجم والمنسق. وهذا هو الغرض من الهدف رقم 14 من أهداف التنمية المستدامة وجميع الأهداف المترابطة.

وتساعد الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بالفعل البلدان النامية على العمل من أجل تحقيق الأهداف المترابطة المتمثلة في الهدف رقم 14 من أهداف التنمية المستدامة. إن مفتاح هذا العمل هو مواءمة التنمية الاقتصادية مع صحة المحيطات. ولا يمكننا الاستمرار، ناهيك عن التعجيل، في التغييرات التي تتسبب فيها للنظم الإيكولوجية للمحيطات. ولهذا السبب تعمل منظومة الأمم المتحدة مع الحكومات والقطاع الخاص الدولي ومنظمات المجتمع المدني على تعزيز هياكل الإدارة وتعزيز تنفيذ الصكوك القانونية الدولية وأدوات الإدارة المختلفة مثل الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية والتخطيط المكاني البحري وتيسير نهجاً منسقاً لتطبيق القانون والسياسات المتعلقة بحماية البيئة والتنمية الاقتصادية المستدامة.

وبالنظر إلى المستقبل، هناك أربع خطوات ذات أهمية خاصة.

أولا، حشد القيادة الرفيعة المستوى والإرادة السياسية وتيسير إقامة الشراكات. وسيؤدي مؤتمر المحيط المقبل، الذي سيتم عقده في الفترة من 5 إلى 9 حزيران/ يونيو، 2017 في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، إلى تسليط الضوء على جميع المسائل ذات الصلة. وسيصبح في إمكان أصحاب المصلحة أن يقوموا   بتسجيل التزامات ملموسة. ويمثل هذا التجمع أيضاً منبراً لتثقيف جميع الجهات الفاعلة بشأن الإطار القانوني الدولي الذي يحكم البحار والمحيطات، والأدوات والمنهجيات اللازمة لاستخدامها المستدام وحفظها. وسيكون من المهم بصفة خاصة تشجيع أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة، ولا سيما فيما يتعلق بمصايد الأسماك، وتحفيز الآليات القائمة على السوق للحد من النفايات والتلوث.

وثانيا، ترجمة الإرادة السياسية المعرب عنها في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 إلى تمويل الالتزامات لبناء القدرات. وتعمل الأمم المتحدة بالفعل مع الحكومات على نشر أدوات مالية مبتكرة مثل السندات الزرقاء والتأمين ومقايضة الديون بالتكيّف. وبالتعاون مع كيانات تمويل المنح، مثل مرفق البيئة العالمية، وصندوق المناخ الأخضر، وصندوق التكيف، هناك حاجة إلى الموارد لتحسين إدارة البيئات والموارد البحرية، وتعزيز التنويع الاقتصادي، وخلق الوظائف، وتحقيق الأمن الغذائي، والحد من الفقر، وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة.

ثالثاً، تعميق قاعدة المعرفة. ويلزم ذلك توفير بيانات ومعلومات علمية واقتصادية أفضل لفهم الآثار والتكاليف البيئية للأنشطة البشرية على المحيطات، والآثار الاجتماعية والاقتصادية لتدهور المحيطات على رفاه الإنسان، والتآزر والمفاضلة بين مختلف السياسات. وستقدم هذه المعلومات بواسطة التقارير والتقييمات المختلفة، مثل التقرير المقبل للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ عن المحيطات والغلاف الجليدي، والعملية المنتظمة للإبلاغ عن حالة البيئة البحرية وتقييمها على الصعيد العالمي، بما في ذلك الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. وأرحب أيضاً بمساهمة الشراكة العالمية من أجل بيانات التنمية المستدامة لسد الثغرات الحرجة في البيانات وضمان إمكانية الوصول إلى البيانات واستخدامها. ومن الضروري أن نسخّر الإمكانيات المتزايدة للبيانات الضخمة لتحديد المخاطر ومعالجتها في الوقت الحقيقي. تمثل البيانات شريان الحياة لصنع القرار والمواد الخام للمساءلة. ويمكنها أن تكمل الإحصاءات التقليدية وتعززها، وكذلك تحرك العالم على طريق المساواة في المعلومات حيث يحصل جميع المواطنين والمنظمات والحكومات على المعلومات المناسبة، في الوقت المناسب، ويقومون  باتخاذ قرارات جيدة يمكن أن تحسن حياة الناس.

رابعاً، تقاسم أفضل الممارسات والخبرات. إن العديد من الحلول الأكثر ابتكاراً هي حلول محلية، بدءاً من المناطق البحرية المدارة إلى إدارة مصايد الأسماك الجماعية التي تضطلع بها التعاونيات. وعلى الرغم من أنَّه لا يمكن توسيع نطاقها كلها، فإن بعضها قد يكون له أهمية أوسع. أما بالنسبة للثقافات ونظم المعرفة المختلفة، بما في ذلك المعارف التقليدية، فيمكنها أن توفر منظورات جديدة للابتكار وفهم قضايا الاستدامة الرئيسية، مثل المسؤولية بين الأجيال. وسيكون من الأهمية بما كان أيضاً تثقيف الشباب بشأن هشاشة البيئة البحرية وأهميتها بالنسبة للتنمية المستدامة.

وسيتطلب الحفاظ على سلامة الأنظمة الإيكولوجية البحرية تحولاً عميقاً في الطريقة التي تنظر بها البشرية إلى هذه الموارد الهشة والمحددة والتي لا يمكن الاستغناء عنها، والطريقة التي تستخدمها بها. ولكن إذا اتبعنا توجيهات خطة عام 2030 واستثمرنا بحكمة في التنمية المستدامة، يمكننا أن نحافظ على نوعية الحياة التي توفرها البحار والمحيطات والموارد البحرية للبشرية، ونقوم بتحسينها.

وخلال السنوات العديدة التي شاركت فيها في صياغة خطة عام 2030 وتنفيذها، رأيت الدور الحاسم الذي تؤديه الأمم المتحدة في الجمع بين الناس، وتوفير محفل للمناقشة والإسهام ببيانات موثوقة وتحليلات وخيارات في مجال السياسة العامة. وفي الوقت الذي أمضيته مؤخراً كوزيرة لشؤون البيئة في نيجيريا، لم أر الحاجة الملحة فحسب، بل رأيت أيضاً استعداد الناس للمساهمة في حل المشاكل لمجتمعاتهم وللعالم. إن هذه الروح، إلى جانب الأمم المتحدة الداعمة، يمكنها أن تحقق تقدماً كبيراً. إنني أتطلع إلى العمل مع الشركاء في كل مكان لوضع الناس والكوكب - بما في ذلك محيطاتنا وبحارنا الثمينة - على الطريق نحو مستقبل مستدام.  

 

وقائع الأمم المتحدة ليست سجلاً رسمياً. إنها تتشرف باستضافة كبار مسؤولي الأمم المتحدة وكذلك المساهمين البارزين من خارج منظومة الأمم المتحدة الذين لا تعبر آراءهم بالضرورة عن آراء الأمم المتحدة. وبالمثل، الحدود والأسماء المعروضة والتسميات المستخدمة في الخرائط أو المقالات، لا تعني بالضرورة موافقة أو قبول من قِبل الأمم المتحدة.