المشاكل التي نواجهها

في عام 2015 اعتمدت الأمم المتحدة 17 من أهداف التنمية المستدامة من أجل العالم. وهذه الأهداف يمكن تلخيصها بشكل عام على أنها إنهاء الفقر، وضمان إتاحة الغذاء والمياه النظيفة والطاقة، والصحة العالمية والتعليم، وتحقيق مساواة الجنسين وضمان العمل اللائق للجميع، وبناء مرافق أساسية صامدة والحدّ من عدم المساواة في الدخل، وتعزيز التنمية الحضرية والاستهلاك والإنتاج بصورة مستدامة، وإيجاد حلول لتغيُّر المناخ وحفظ المحيطات ومنع إزالة الغابات، وتنفيذ الأُطر الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف بما في ذلك إيجاد شراكة عالمية من أجل التنمية المستدامة.

ولا شك أن هذه أهداف سامية. لكن السؤال المطروح مع ذلك يتعلق بالنهج الذي تتبعه الأمم المتحدة والدول الأعضاء في مقاربة هذه القضايا وكيف تُسنَد الأهمية النسبية للحلول الممكنة في هذا المجال.

ولسوف أقتَرح أن إنشاء مفاعلات صغيرة متطوّرة من الملح المنصهر، بما في ذلك التشكيلة الماسحة أمر يتيح إمكانية المُضي قُدماً في وقت واحد إلى حيث بلوغ العديد من أهداف التنمية المستدامة.

مفاهيم الطاقة الذرية

من الحلول المستبعدة فيما يبدو لهذه المشاكل الضاغطة ما قد يتمثَّل في واقع الأمر في الطاقة الذرية ولو في شكل مخالِف لشكلها الحالي. وتستند المبادئ الرئيسية لتوليد الطاقة النووية إلى القوة التي تجمع بين أجزاء أي ذرة مع بعضها البعض. وإذا لم تكن الذرّة مستقرة، فلسوف تحاول أن تصل إلى حالة أكثر استقراراً من خلال الانقسام إلى أجزاء مختلفة. ويمكن للذرّة أن لا تكون مستقرة بصورة طبيعية أو يمكن جعلها غير مستقرة في حالة إضافة المزيد من النيترونات الإضافية إلى النواة.

وعندما تصبح الذرّة أكثر استقراراً وتُطلق الجزيئات فهي تُطلق أيضاً كميات ضخمة من الطاقة التي يمكن استخدامها لتوليد ما يكفي من الحرارة، في إطار نظام مُغلَق، من أجل إدارة توربين. أما الإشعاع، الذي كثيراً ما يُفهَم على سبيل الخطأ، فهو أمر يحدث بصورة طبيعية إلى حدٍ كبير. وهناك أنواع عديدة من الإشعاع التي تنجم عنها جميعاً آثار مختلفة وترتبط باستخدامات متباينة.

وتنبع الشواغل المرتبطة بالطاقة النووية من ثلاثة مصادر رئيسية: الرؤوس الحربية النووية وانتشارها، والانصهارات الأساسية وحالات فشل النُظم ثم النفايات النووية. وهذه تمثِّل جميع النقاط المشروعة التي يمكن التعامل معها من خلال إعادة تفكير نظرية وأساسية بشأن الطريقة التي تتبع في توليد الطاقة الذرية.

 

المفاعلات النموذجية الصغيرة من الملح المنصهر: حلّ يناسب زماننا

سبق اتباع نَهج هذه المفاعلات من الملح المنصهر على نطاق واسع بالولايات المتحدة بين عقدي الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وعلى خلاف المفاعلات الحالية فقد أتاحت حلولاً فريدة بالنسبة إلى كثير من التحدّيات التي تواجهها المفاعلات التقليدية.

      •  الأملاح كانت بالفعل في حالة انصهار بحيث جعلت مصطلح ”الانصهار“ أمراً غير ذي موضوع. وإذا ما كانت الشبكة مفرطة في سخونتها يتم تخفيف تصريف الأملاح بصورة سلبية إلى مستودع تبريد.

      •  المواد الإشعاعية تشكِّل وصلات مستقرة في الشبكة. أما المواد المتطايرة فيتم باستمرار إزالتها.

      •  مفاعلات الأملاح المنصهرة تعمل تحت ضغط جوي بما يستحيل معه وقوع حوادث مثل تلك التي حدثت في فوكيشيما، اليابان.

      •  كثير من المفاعلات المذكورة أعلاه لديها القدرة على تدمير النفايات النووية الموجودة في تصميم محولاتها.

      •  نُظم هذه المفاعلات يمكن أن تستخدِم المواد الانشطارية على نحو أكفأ من المفاعلات النووية المتعارَف عليها.

      •  يمكن استخدام هذه المفاعلات لأغراض تتّبع الأحمال بغير إعادة تنشيط فائقة بسبب الفراغ السلبي القوي والمكافئِات الحرارية.

      •  مادة الثوريوم الأرضية، وهي مادة خصبة ممكنة الاستخدام للمفاعلات المذكورة أعلاه، متوافرة بمقدار يبلغ نحو ثلاثة أضعاف وجود اليورانيوم في القشرة الأرضية. والثوريوم الذي يعالَج حالياً باعتباره ناتجاً من النفايات في التعدين الأرضي النادر ولا يتسم إلاّ بالقليل من القيمة التجارية نسبياً يمكن استخلاصه باستخدام أسلوب التعدين بالتجريف (مقابل الأساليب الاقتحامية الأخرى) بل يمكن استخراجه من المحيطات.

      •  نُظم المفاعلات سابقة الذكر يمكن أن تعمل في شكل ماسح بمعنى إمكانية جعلها أكثر مقاومة للانتشار عن سواها من المفاعلات الملحية المنصهرة أو التصميمات التقليدية.

      •  هذه التصاميم يمكن أن تعمل بشكل مُغلَق الفوّهة تماماً سواء باستخدام توربين رانكن أو برايتون حيث لا يحتاج الأمر إلى قربها من المسطّحات المائية الكبيرة على نحو ما هو الحال بالنسبة للمفاعلات الحالية.

      •  هذه التكنولوجيا يمكن قياسها وقد تكون نموذجية ويمكن نشرها على نطاق واسع ما أن يتم بذل جهود لإضفاء الطابع التجاري عليها.

هناك الكثير من التباينات في هذا التصميم. ولكن هذا هو النموذج الذي خضع لأكبر قدر من البحث والتجريب.

ومن التصاميم التي تستحق إمعان البحث ما يتمثَّل في مفاعل المسح بالأملاح المنصهرة الذي يمكن أن يعمل باعتباره مصدراً للوقود على مدار سنوات عديدة بغير تدخُّل بشري. وهذا يتيح انتشاراً أسرع وتيرة وأكثر أمناً للتكنولوجيا حول العالم، وفي إطار شواغل أقل بشأن الانتشار.

استخدامات المفاعلات

تبايُن استخدامات المفاعلات ربما يكون أهم الأسباب التي تدفع إلى تطوير هذه التكنولوجيا بحكم ما ينطوي عليه من قدرة على التزويد بالكهرباء والمياه والنظائر الطبية المشعة والطاقة اللازمة لإنتاج الأغذية، مع التقليل من التراكمات الحالية من النفايات النووية، إضافة إلى توفير الطاقة في المواقع النائية، فضلاً عن استخدامات أخرى.

الطاقة والمياه للجميع

بحكم طبيعة التحدّيات التي يواجهها كوكب الأرض، فمن الضروري أولاً وقبل كل شيء، ضمان الإتاحة الكافية من الكهرباء والمياه والصرف الصحي للجميع. وتتمتّع المفاعلات المذكورة أعلاه بالقدرة الفريدة على ذلك. ولأن أنواع الوقود التي يمكن استخدامها في المنظومة تتباين إلى حدٍ كبير، فإن الكفاءة واستخدام الوقود هي نُظم تتسم بحجم أكبر من حجم مفاعلات اليورانيوم المتعارَف عليها، فضلاً عن أن التكنولوجيا مستخدمة على نطاق واسع عبر طائفة كبيرة من الاستخدامات، ومن ثم فمن الصعب الاستهانة بإمكانية استخدام المفاعلات لصالح التنمية البشرية في المستقبل.

وبالإضافة إلى ذلك، وبما أن المواد المُشعَّة تكون مستبعَدة تماماً من شبكة توليد الطاقة الكهربية، التي تعمل عند درجة تزيد على 100 درجة مئوية، فلسوف يتاح تنقية المياه وتعقيم النفايات من خلال الحرارة الزائدة. ويمكن تنفيذ هذا الأمر في أماكن قرب المحيط ومنها مثلاً كاليفورنيا مع التزويد بالمياه النقية من أجل الاستهلاك الآدمي.

الاستجابة إزاء الكوارث والشبكات المتناهية الصِغَر

لأن هذه المفاعلات يمكن أن تكون معيارية وقابلة للقياس، يصبح بالإمكان تخفيض حجمها إلى حيث يمكن تصنيعها ونشرها على نطاق واسع من أجل تزويد عمليات التشغيل بالطاقة حيث لا يتاح الوصول إلى الهياكل الأساسية التقليدية. وهذا يشمل القواعد العسكرية والدول النامية ومرافق الاستجابة إزاء الكوارث في المواقع التي تكون البنى الأساسية فيها قد أصيبت بأضرار. وطبيعة هذه المفاعلات تتمثّل في قدرتها على التوافق مع أحمالها مما يجعلها مرشَّحاً نموذجياً لتشغيل شبكات الأجل القصير.

إنتاج النظائر الطبية المشعّة

يتم كذلك إيجاد النظائر الطبية المشعّة بوصفها مُنتجاً فرعياً لتشغيل المفاعل وبعض من سلاسله في مجال انحلال الوقود. ويمكن استخدامها كدواء وكذلك في البحوث من أجل المعالجة المتقدمة لجزيئات ألفا وكذلك من أجل صور الأشعّة الطبية، إضافة إلى عدد آخر من الاستخدامات الطبية. ولقد كان الثوريوم بالفعل موضعاً للبحوث في المملكة المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك، يتركَّز إنتاج النظائر المشعّة حالياً في المفاعلات التي تقادَم عهدها في جنوب أفريقيا وكندا. وفي ضوء وجود مصدر محلي لهذه النظائر المشعّة فمن شأن هذا أن يُثبت فائدته بالنسبة للاستخدام الميسور التكاليف عبر الكثير من الدول.

تنظيف النفايات النووية ومنع الانتشار

كما ذُكِر أعلاه، تنطوي المفاعلات المختلفة على قدرات متباينة، وبعضها يتسم بالملاءمة الفريدة لأغراض التصرُّف في النفايات النووية ومنع الانتشار. وتركّز بعض الشركات في الولايات المتحدة حالياً على إيجاد مفاعلات ”حارقة“. وهذه النُظم تستطيع الحفاظ على كثافة أعلى من الطاقة واستخدام النفايات النووية كمصدر للوقود لأغراض التفاعل. وهذا من شأنه أن يتيح لنا تقليل الركامات الراهنة إلى حيث تصبح نفايات ما بعد اليورانيوم، وتضم قدراً ضئيلاً من إعادة نشاط النفايات الموجودة، بحيث لن يتعيّن أن يساورنا القلق بشأن استخراج أو فصل أو تصنيع الوقود إضافي، بل يمكن بدلاً من ذلك استخدام الطاقة الموجودة والمختَزَنة فيه بينما لا تستطيع المفاعلات التقليدية أن تستخدمها.

ومع ذلك فالمفاعلات الأخرى تريد التركيز على منع الانتشار النووي. وفي المفاعلات الملحية المتعارف عليها حيث تتم المعالجة الكيميائية من أجل تصميم يستخدم سائليْن، يتم الفصل لبعض النظائر المشعّة لزيادة توفير النيوترون للمفاعل. على أن هذه الخطوة تسمح بإمكانية فصل هذه المادة واستخدامها في عمليات التسليح المشعّة. وبرغم صعوبة ذلك فلا يزال الأمر ممكناً. ولعلاج هذا الجانب تم تطوير المفاعلات الماسحة في الفترة 1979-1980. ويمكن تعديل هذا النظام لإتاحة استخدام مستودع وحيد من الوقود بغير فصل، كما ينطوي على عقبة صغيرة إزاء تحويل نسبة المواد المخصَّبة إلى مواد انشطارية فيما ينطوي على ما يكفي من الوقود المعدّل للحفاظ على تركيبة لا تناسِب القنابل النووية. وهذا التصميم، ما أن يتم اختباره واستكماله يمكن إرساله إلى أي مكان من العالم في ضوء انشغال أقل بكثير إزاء الانتشار. كما يمكن لهذا الأمر أن يساعد على توفير الطاقة والمياه لبعض الدول التي تمسّ حاجتها إلى ذلك.

ما بعد كوكب الأرض

أخيراً، فإن تطبيقات هذه التكنولوجيا يمكن توسيعها لكي تتجاوز كوكب الأرض ذاته، حيث يمكن أن تصبح المفاعلات المذكورة أعلاه مرشّحاً قوياً من أجل نظام للطاقة الكهربائية يتاح استخدامه للحفاظ على الحياة البشرية أو على مهام كائن الذكاء الاصطناعي – الروبوت في الفضاء الخارجي. ويمكن في هذا المجال تيسير أمر الطاقة والحرارة ونُظم تنقية المياه فيما يمكن أن يعمل المفاعل على مدار سنوات عديدة دون تدخُّل بشري. كذلك يمكن معالجة المياه العادمة وتعقيمها بما يتيح استخدامها من أجل نظام مستدام لدعم الحياة خارج كوكب الأرض.

إن هناك الكثير من المشاكل والقضايا التي تواجه الكوكب وسكانه. والتماس الحلول لأيٍ من هذه المشاكل والقضايا يمكن أن يمثل مهمة جسيمة، فضلاً عن الحلول التي يمكن أن تساعد على التوصُّل إلى تحقيق العديد من الأهداف الإنمائية. ومن ثم فإن الطاقة الذرية، إذا ما أجيد استخدامها، يمكن أن تنقذ الحياة والموارد، وقد حان الوقت لإعادة تدارس أساسية لتطبيقاتها ولمواصلة تنمية بحوث الطاقة الذرية السلمية. وتمثِّل مفاعلات الملح المنصهر إحياءًُ لفكرة قديمة ثبت أنها تشكل واحداً من أفضل السُبل المنفردة الكفيلة بالتزويد بطاقة آمنة ونظيفة من أجل مئات السنين في المستقبل.